المصدر الأخير للحقيقة - في معركة حامية الوطيس -

قبل أيام، و بالضبط، في: 27 آب (أغسطس) 2008 توفي عم والدي “أحمد بوزيان” أخ شهيد الثورة الجزائرية “حسن بوزيان” الذي تسمى به بلديتي ومسقط رأسي ومكان سكني وعملي ونشاطي.

بوفاته يكون كل إخوة الشهيد قد لحقوا به بما فيهم جدي أب والدي، وقد لحقت بهم أيضا جدتي أم والدي والأم الروحية والمربية الحقيقية للشهيد “حسن بوزيان”. بوفاة كل هؤلاء أكون قد ضيعت كل فرص الحصول على الحقيقة من مصادرها أو بالأحرى الكتابة عن الحقيقة في ظل حياة مصادرها، وآخر فرصة كانت عم والدي المتوفى مؤخرا.

عودتي للكتابة جاءت متأخرة جدا، مع تمكن المرض من عم والدي الذي لم يمهله طويلا. كنت أتمنى كتابة قصة حياة الشهيد “حسن بوزيان” اعتمادا على كل هؤلاء، وما كان يهمني أكثر في الكتابة عنه ليس تمجيده، لأنه ممجد عند رب العالمين، ولا يستحق منا المهرجانات الفلكلورية التي تسترزق من أسماء الشهداء وباسم الثورة. ما يستحقه شهيد العائلة هذا وكل شهداء الجزائر هو قول الحقيقة ورواية التاريخ كما حدث.

كنت أنوي في تلك القصة عند كتابتها ذكر أمور كثيرة ليست حكرا على شهيد عائلتي فقط، وإنما هي وصف عام لموضوع هام جدا وبالغ الخطورة، موضوع الشهداء وكيفية استشهادهم، والمجاهدين الحقيقيين والمزيفين، ومنح المجاهدين وعائلات الشهداء.
بدون فخر، عائلتي رفضت استلام منحة أو أجرة أو سكن باسم الشهيد، وفعل مثلنا الكثيرون، لكن الغالبية ممن يسمون بالمجاهدين المزيفين يتقاضون منحا دورية معتبرة ولهم امتيازات كثيرة تجعل منهم مواطنين درجة أولى.

إن المقارنة البسيطة بين عدد الجزائريين غداة الاستقلال سنة 1962 و بين عدد المجاهدين الحاليين و المتوفيين بعد 1962 يجعلنا نضع علامة استفهام كبيرة حول الموضوع.
لا أدري هل يكفي عرض هذه الأرقام لمعرفة فظاعة ما يحصل وما يقترف باسم الثورة الجزائرية؟
النقطة التي كنت أنوي التوقف عندها طويلا عند كتابتي للقصة هي طريقة استشهاد عم والدي “حسن بوزيان”. والمتعارف عليه في التاريخ الجزائري و في الغالب عند سرد قصة حياة أي شهيد، وعند الوصول للمرحلة الأخيرة من حياته واستشهاده وظروف وملابسات هذا الاستشهاد، يتم ذكر العبارة التالية: “سقط الشهيد (…) في معركة حامية الوطيس”، وتتوقف هنا الجملة، لا ذكر أبدا للمكان أو المرافقين للشهيد، أو تفاصيل أخرى، وفي حالة ما إذا ذكرت أسماء الأماكن والأشخاص فتكون حسب سيناريو مضبوط يخفي حقيقة ما حصل.

قبل سنوات، فتحت الصحافة الجزائرية ملفا خطيرا جدا كان بمثابة تابو حقيقي. ملف الاغتيالات السياسية خلال الثورة الجزائرية والتصفيات الجسدية التي تمت بين زملاء ورفاق الجهاد في سبيل الوطن.
كان أجدادي (إخوة الشهيد) وجدتي أيضا يؤكدون لنا دائما أن “حسن بوزيان” استشهد خلال تأديته لواجبه المقدس اتجاه وطنه لكن برصاص الغدر وليس برصاص العدو، الرصاصة التي قتلته أصابته في قفاه، في رأسه من الخلف، وكانوا يذكرون لنا وبكل صراحة أسماء المشكوك فيهم، فالبعض منهم كانت غيرته من الشهيد واضحة جدا، وأغلبية النزهاء ببلديتي أيضا يؤكدون ذلك. لكن الملف لم يفتح أبدا ولحد الآن، والقصة بقيت تتوارد بين سكان المنطقة فقط.
أغلبية المشكوك فيهم في تلك القضية ماتوا الآن، ربما كانوا ثلاثة، أحدهم كانت ظروف وفاته بعد الاستقلال غامضة، حيث صنفت على أنها حادث عمل، والغريب أنها جاءت في الوقت الذي بدأ يراجع فيه نفسه ويميل للتوبة، وبدأ فعلا بالحديث عن قضية استشهاد رفيقهم.
مثل حوادث الاستشهاد هذه كثيرة، والدخول إليها وفتح ملفاتها ليس سهلا أبدا ولو في حضور الأدلة والإثباتات، فما بالك في غيابها، ثم أن النزهاء والمصادر الأخيرة للحقيقة تتناقص مع الأيام بعدما عزلت وكممت أفواهها.

0 تعليقــات:

إرسال تعليق

free counters

عن المدونة

مقالات الكاتب و الناشط في مجال الأعمال الخيرية و الإنسانية جمال الدين بوزيان