سياسة جس النبض

لا تختلف القنوات الفضائية العربية كثيرا عن الأنظمة العربية الحاكمة، بل هي تشبهها كثيرا وتحاكيها جيدا في بعض طرق تعاملها مع الشعوب والجماهير العربية. تلتقي تلك القنوات مع تلك الأنظمة وتتفق معها وبدون قصد حول انتهاج سياسة جس النبض، فالشارع العربي نبض يجب أن يقيسه الحكام قبل إصدار القوانين الجديدة، وتغيير الدساتير وتغيير نوع الحكم، كما للتحرر العربي نبض يجب أن تقيسه الفضائيات قبل عرض أي مادة جديدة تحوي تحررا جسديا غير معتاد لدى الجماهير العربية.

ما فعلته أنظمتنا وتفعله منذ بدء وجودها الأبدي، هو تماما ما قامت وتقوم به فضائياتنا منذ ظهورها في سنوات التسعينات، فقد اعتدنا مثلا بالجزائر أن نسمع الإشاعات المختلفة تنتشر هنا وهناك عن أمور سياسية واقتصادية واجتماعية، عن قانون جديد يتعلق بسياسة الشغل، أو نظام التأمين والضمان الاجتماعي، أو النظام الصحي، عن احتمالات تولي الشخص الفلاني لمنصب وزاري، عن عودة ذلك السياسي الغائب إلى الأضواء قريبا.
هذه الإشاعات هي تحضير نفسي جيد لأفراد الشعب لتقبل تلك القوانين عند صدورها، وهي بمثابة جس النبض لهم، وقياس مدى تقبلهم لذلك التغيير.

أما القنوات الفضائية ولكي تقوم بجس نبض الجماهير اتجاه التحرر الجسدي فهي لا تعتمد على الإشاعات، وإنما تتبع سياسة الجرعات الخفيفة الأولية، لأن جرعة التحرر الكبيرة والمفاجئة قد تسبب لجمهور المشاهدين حساسية، وردة فعل عنيفة ورافضة لما يبث من أمور مختلفة عن المعتاد.

الجرعات الخفيفة من مناظر العري والقبل والأحضان والرقص، تمنع ظهور رفض كلي لتلك البرامج والمواد الإعلامية، وتضمن استمرارها، مع زيادة نسبة الجرعات تدريجيا وعبر سنوات إلى أن تصل إلى ما وصلت إليه الآن.
فالتنورة العربية التي كانت تبدو في سنوات التسعينات فوق الركبة أصبحت الآن “مايوه” لا يغطي من جسد من ترتديه إلا المناطق الحساسة جدا، ولا ندري هل سيحين دورها هي أيضا للظهور في الكليبات الغنائية والبرامج التلفزيونية.

في سنوات التسعينات، عند ظهور “دي دي” الأغنية الضاربة والناجحة لمغني الراي العالمي الجزائري الشاب خالد، عزفت كثير من التلفزيونات العربية عن عرضها بحجة تنافيها مع عاداتنا وأخلاقنا، وبسبب التحرر الجسدي الذي يحويه كليب الأغنية، والقنوات التي عرضته في ذلك الوقت، قامت بالتصرف في صوره وحذف بعضها وتثبيت الأخرى، وكأننا أمام فيلم جنسي وليس كليب غنائي.

اليوم، نفس تلك القنوات التي رفضت أغنية “دي دي” وحذفت لقطات منها، تقوم بعرض مسلسلات جريئة وأغاني إيحائية صريحة لشبه مغنيات يلبسن كما يقول عادل إمام “من غير هدوم”.

المسلسلات التركية عند ظهورها العام الماضي، لم تكن بنفس التحرر الذي هي عليه الآن، دائما أول مرة تكون عبارة عن جس نبض، حيث يتم حذف بعض المشاهد لتخفيف جرعة التحرر الجسدي الموجود بالمسلسل، فالأحضان والملامسات والمداعبات الجسدية الموجودة الآن بمسلسل “وتمضي الأيام” غير متوفرة بنفس تلك الكثافة بمسلسل “نور” الذي عرض قبل عام.
نفس الشيء حدث مع برنامج تلفزيون الواقع “ستار أكاديمي”، في الأول كان ممنوعا على التلاميذ الذكور الدخول لغرف نوم البنات، هذا في “ستار أكاديمي 1″، الآن في ستار أكاديمي 5 و 6، نرى تلميذات الأكاديمية يسبحن بالبيكيني.

سياسة جس النبض تخلق الألفة لدى المشاهد لأمور يرفضها لو جاءت مباشرة، ويحضنها لو دخلت عليه تدريجيا، المشكلة كلها تتعلق بالتعود، عندما يتعود الشعب أو الجمهور على فكرة معينة، يصبح قابلا لها ومتعايشا معها، ولو كانت تلك الفكرة عبارة عن قانون ظالم أو مادة إعلامية إباحية.

0 تعليقــات:

إرسال تعليق

free counters

عن المدونة

مقالات الكاتب و الناشط في مجال الأعمال الخيرية و الإنسانية جمال الدين بوزيان